اذا رأيت جارك يحمل غرضاً، فاسرع بمساعدته، ولا تخطئ ظنك بأن تجد الجنة في تلك الدار المجاورة.
بوب ديلان ”The Ballad of Frankie Lee and Judas Priest”
منذ اللحظة الأولى لإعلان وزير الخارجية الأميركي جون كيري في أيار 2013 عن إعداد خطة استثمارية عالمية تحت شعار "تنمية الاقتصاد الفلسطيني"، لم تنقطع التعليقات المؤيدة والمستنكرة والمتسائلة من مختلف الجهات، وخاصة الفلسطينية، حول الدوافع الأميركية ومغزى الخطة ومضمونها. وعند إطلاق المبادرة بصياغتها الأولية بمبلغ استثماري مقترح بـ 4$ مليار، طُرحت وفُهمت على نطاق واسع بأنها تشكل تشجيعاً ملموساً للأطراف (أو ربما طعماً للطرف الفلسطيني) بموازاة الجهود لإحياء المفاوضات الإسرائيلية-الفلسطينية حول حل "الوضع الدائم". والكثير من الجدل دار (وما زال) حول هذا التفسير المبسط، وفيما بعد قام فريق دولي من "الخبراء" تابع لممثل الرباعية الدولية بصياغتها رزمة من المقترحات وإعادة تسمية الخطة بـ"المبادرة الاقتصادية من أجل فلسطين"، نزولاً عند الإصرار الرسمي الفلسطيني بضرورة التوضيح أنها ليست مبادرة فلسطينية بل أنها تعكس تدخل دولي لصالح فلسطين.
ثم أضافت الرباعية تقديرات لاستثمارات متعددة القطاعات لتبلغ قيمة المبادرة حوالى 10.5$ مليار خلال 3 سنوات (تنفق 60% منها في السنة الأولى) مع حديث عن احتمال رفع الهدف الاستثماري إلى 19$ مليار إذا تبين أن القدرة الاستيعابية للاقتصاد الفلسطيني تتحمل مثل هذه المبالغ خلال فترة تنفيذ البرامج المقترحة. ومع أن تلك المقترحات لم تنشر رسمياً من قبل الرباعية أو الأطراف المعنية، فإن صحيفة اقتصادية محلية جديدة انفردت بنشر ما تؤكد أنها التفاصيل الدقيقة (المسربة) للمبادرة بشكلها الأولي والمبالغ الاستثمارية الإجمالية والبرامج القطاعية (جريدة الحدث، 10/12/2013). وما تكشفها هذه التفاصيل عن أهداف المبادرة وحجمها واحتمالات تنفيذها توفر المزيد من الوقود للجدل الدائر والتفسيرات المتباينة لأهميتها ووظيفتها ومصيرها في هذه اللحظة التفاوضية المحفوفة بعدم اليقين وتقلبات إقليمية ومحلية في موازين القوى.
ما من شك أن الرؤى الفلسطينية الغالبة ما زالت تعتبر أنه لا يمكن فهم مبادرة الرباعية الاقتصادية سوى من منظور ما يسمى ب"السلام الاقتصادي" القائم أساساً على توظيف المحفزات الاقتصادية وتقديم تسهيلات كبديل مؤقت عن السلام العادل والشامل. ويمكن تفصيل هذا المفهوم إلى نوعين، "سلام اقتصادي خبيث" و"سلام اقتصادي حميد"، يتجددان ويتشكلان حسب المرحلة. والنوع الخبيث ترويضي، أي تسليم الشعب الفلسطيني بشكل من الحياة المستقرة في مرحلة معينة مقابل إطلاق يد إسرائيل لتحقيق أهداف استعمارية أو رأسمالية. وهو تأجيلي، حيث يساعد على الابتعاد عن التعامل مع القضية السياسية من خلال إشغال الناس بالهم الاقتصادي والمعيشي. وهذا النوع من السلام الاقتصادي كان له عدة نماذج سابقة، مثل "الجسور المفتوحة" التي أطلقها موشى دايان بعد احتلال 1967 لإنهاء الكفاح المسلح في الأراضي الفلسطينية، ثم سياسة " تحسين جودة الحياة" التي أطلقها شولتز ورابين، عام 1986 وقوبلت بحجارة الانتفاضة الأولى، إلى أن جاءت أوسلو في 1993. وما بعد ذلك ما أطلقه في 2009 رئيس الوزراء الإسرائيلي نتنياهو الذي لم يخجل بتسمية الشيء باسمه، حيث أنه الذي أشهر مصطلح "السلام الاقتصادي" أصلاً، دون تحديد مدى خباثته!
أما السلام الاقتصادي "الحميد" فهو ثنائي الطرف ومتفق عليه من قبل الجانبين الإسرائيلي والفلسطيني، لفترة محددة ولهدف محدد جوهره بالأساس سياسي، وربما يعتبر بروتوكول باريس الاقتصادي لعام 1994 ارقى أشكاله. ودون أدنى شك إن الطرف الإسرائيلي "المستعمر" هو الأكثر استفادة أيضاً من هذا النوع، الذي يطيل من فترة احتلاله ويكرس استعماره، مثل ما حدث بعد 5 سنوات على توقيع اتفاقية أوسلو تكشفت نوايا إسرائيل غير الحميدة وأثبتت عجز السلام الاقتصادي الحميد نفسه. كما كانت "تفاهمات ستينتز- فياض 2012" حول إدارة التدفقات التجارية والضريبية بين الطرفين نسخة "حميدة" إلى حد ما. وهذه النماذج التعاونية شبيهة بالطرح الدولي الجديد الذي يبدو للوهلة الأولى بأنه ليس سوى نسخة جديدة معدلة عن النسخ السابقة الحميدة، التي كانت محددة بفترات زمنية وتحمل معها أهدافاً سياسية مشتركة.
والأهم من ذلك أن جميع نسخ السلام الاقتصادي باءت بالفشل؛ إما لأنها كانت تضمر في ثناياها نوايا إسرائيلية استعمارية، أو بسبب المعارضة الفلسطينية أو خلل ما في تصميمها. وكلها عملت على مبدأ إخضاع التنمية الفلسطينية للأولويات السياسية السائدة وإلى اعتبارات توثيق التعاون الاقتصادي الفلسطيني مع إسرائيل. وكانت دائما ترافق مثل هذه والمبادرات دراسات وأبحاث علمية مشتركة، التي غالباً ما استندت إلى مفاهيم وتنبؤات اقتصادية خاطئة، تمحورت حول الادعاء بأن هناك مساراً اندماجياً محتملاً من خلال التبعية للاقتصاد الإسرائيلي الأكثر تقدماً ومن خلال نموذج اقتصادي يعتمد السياسات الليبرالية و"اقتصاد السوق الحر"، كما ينص على ذلك القانون الفلسطيني الأساسي.
إن القائمين على إعداد مبادرة الرباعية، ومن يروج لفوائدها المحتملة، يتوقعون منها نتائج كبرى خلال 3 سنوات، حملت كيري نفسه على التساؤل إذا ما كانت "ضرب من الخيال":
- نمو حقيقي في الناتج الإجمالي المحلي يبلغ 50% وارتفاع موازي في الناتج الإجمالي المحلي للفرد؛
- تخفيض نسبة البطالة من 23% إلى 8% من خلال خلق 350000 وظيفة جديدة في القطاع الخاص؛
- زيادة 30% في معدل الدخل الأسري يصل إلى 10000$؛
- زيادة في تدفق رأس المال الأجنبي المباشر من 600$ مليون سنوي إلى 5-6 مليار خلال 3 سنوات؛
- إيرادات ضريبية إضافية مقدرة بـ 655$ مليون سنوياً؛
-
التحول من نمط المساعدات الدولية على شكل منح (والبالغة تقريباً 1$ مليار سنوياً) لسد عجز الموازنة العامة إلى خليط من الاستثمارات المباشرة الدولية والعربية والمحلية (6$ مليار) والقروض "المضمونة" دولياً للقطاع الخاص (3$ مليار) والقروض الرسمية الميسرة (1.5$ مليار) لتحسين أداء القطاع العام ومساعدتها على تنفيذ سياسة تكييف هيكلي وتقشف في التوظيف العام بنسبة 18% خلال فترة المبادرة؛
وتحقيقاً لاستراتيجيتها المتمثلة بثلاث شعارات كبرى، "تزويد القطاع الخاص بالبنية التحتية المدفوعة" و"تحرير الإمكانيات الذاتية الجوهرية للاقتصاد" و"تسريع النهوض في القطاعات الرئيسية"، تشمل مبادرة الرباعية حوالي 50 مشروعاً/برنامجاً موزعة على 8 قطاعات اقتصادية وبنية تحتية رئيسية: المياه (استثمارات بحوالي 1.3$ مليار)؛ الطاقة (2.5$ مليار)؛ السياحة (1$ مليار)؛ الاتصالات (400$ مليون)؛ الزراعة(550$ مليون)؛ الصناعات الخفيفة (300$ مليون)؛ المقاولات والبناء (3.7$ مليار)؛ مواد البناء (250$ مليون).
ودون الخوض بالمزيد من التفاصيل، يمكن الإقرار بأن ما تتضمنها المبادرة من حجم استثماري موعود، وتوسع قطاعي، وتفصيل برنامجي وآليات تمويلية، تعتبر انحرافاً عن توجه التدخلات الاقتصادية والمساعدات الدولية السابقة. كما أن غالبية برامجها تخص تطوير القدرات الإنتاجية والإنمائية الفلسطينية (سياحة، زراعة، صناعة وبناء)، ربما كان يفترض البدء بالعناية بها منذ أوسلو وليس في هذه المرحلة المتأخرة، بينما برامج أخرى تمس جوانب اقتصادية سيادية لا بد من إنشائها كبنية تحتية للدولة الفلسطينية العتيدة (طاقة، اتصالات، معادن). وهذا يعتبر تقدماً إيجابياً مقارنة بطبيعة السياسات والاستثمارات والمساعدات الاقتصادية القائمة، التي لم تلبِّ احتياجات القطاعات الاقتصادية الحيوية بل أغفلتها وهمشتها على حساب ضرورات التجاوب مع الطوارئ والأزمات الإنسانية، ناهيك عن تمويل العجز العام من رواتب وتكاليف تشغيلية للسلطة الفلسطينية. ومع ذلك فإن المبادرة الجديدة لا تبتعد عن النهج الاقتصادي الليبرالي المتصاعد في فلسطين منذ 2005 (أو 1994) من حيث تضمنها لمشاريع تعجّل من انحسار دور الدولة الاقتصادي واستبداله بالخصخصة و"شراكات خاصة – عامة" حيث ذلك ممكن، ونشر ثقافة السوق الحر والمديونية وما يتصل بها من توجهات استهلاكية وقيم مادية ترسخت في فلسطين (كما في دول المنطقة والجنوب عامة) خلال العقدين الماضيين.
وإذا كانت المبادرة سترى النور وتتاح الفرصة لاختبار وعودها الوردية، تقر الرباعية نفسها بضرورة إحداث تغيير جوهري في تعامل الاحتلال مع ملف التنمية الفلسطينية بعيدة عن السياسة، وهنا طبعاً بيت القصيد. لذلك تتضمن الخطة قائمة ما تسمى بـ"ركائز الدعم" (enablers)، وهي إجراءات تسهيلية يجب توفيرها لإنجاح تنفيذ المبادرة وخاصة مشاريعها العملاقة. ومع أن بعض هذه الركائز تخص إصلاحات فلسطينية داخلية، فإن معظمها تتحكم بها إسرائيل، أما من خلال إملائها لشروط العلاقة الاقتصادية مع السلطة الفلسطينية عامة (في اطار أوسلو وباريس) أو بحكم إخضاع 60% من الضفة الغربية المحتلة (مناطق "ج" الخارجة عن ولاية السلطة الفلسطينية) وشواطئ/بحر غزه والقدس الشرقية للاحتلال المباشر.
وإذا اعتبرنا أن هذه المبادرة من ناحية المضمون ليست في أسوأ الأحوال سوى سلام اقتصادي حميد على طراز 2014، يترافق مع حل سياسي أو ربما يحل محله، وفي أحسن الأحوال تعبر عن نوايا رأسمالية عالمية جدية ترى من الأراضي الفلسطينية ساحة للتوسع وسوق للاستثماراتها الباحثة دائما عن مجالات جديدة، فإنه في كلتا الحالتين لا بد من التعامل بحذر شديد مع المبادرة من قبل القيادة الفلسطينية السياسية والاقتصادية. ولا يمكن أن يتلخص موقف السلطة تجاهه دون شروط "بالاستمرار في خطة كيري حتى لو توقفت المفاوضات"، كما أكد وزير الاقتصاد الوطني (جريدة الحدث 26/11/2013). وقبل إثارة الضجيج حول منافعها المحتملة، يجب تناولها من مختلف جوانب المخاطر التي تحملها، من توجهات الأصولية السوقية في التعامل مع قضايا تنموية جذرية تخص الأمن الاقتصادي القومي وليست قابلة لحلول الخصخصة، مروراً بالقبول بالافتراض الساذج بإمكانية قيام إسرائيل بتقديم جميع تلك التسهيلات التي امتنعت عن منحها طوال 20 سنة وحتى عندما كان الوضع الداخلي الفلسطيني أقوى بكثير، وصولاً إلى التنبؤات الاقتصادية "الخيالية" فعلاً حول وقع مثل هذه الاستثمارات لو سُمح لها.
ورغم كل المخاطر المحتملة، وفي السياق السياسي الأوسع المتمثل بالسعي الدولي لإتمام اتفاق إسرائيلي-فلسطيني تاريخي في 2014، فلا بأس بأن يتم اختبار الاستعداد الإسرائيلي الآن فيما يتعلق ببعض القطاعات الاستراتيجية لفحص مدى الجدية في تقديم رزمة من التنازلات والتسهيلات في مجالات أو مناطق يفترض أنها ستنسحب منها قريباً (مثلاً الطاقة والزراعة والمياه). ومن زاوية أخرى غير مشككة بنوايا جون كيري، يمكن إعادة قراءة كل الموضوع في سياق الجهود الأميركية (الصديقة ظاهرياً) لوضع الحكومة الإسرائيلية على المحك، حيث إذا لم تكن قادرة أو مستعدة للتعامل مع سلام اقتصادي حميد وفتح الأبواب أمام رأس المال العالمي، فكيف ستتعامل إسرائيل مع خطة كيري السياسية التي سيزيل الستار عنها قريباً؟