الجدل حول مبادرة كيري الاقتصادية: مآخذ ومنافع ومخاطر

[\"???? ?????? ???? \"?????] [\"???? ?????? ???? \"?????]

الجدل حول مبادرة كيري الاقتصادية: مآخذ ومنافع ومخاطر

By : Raja Khalidi رجا الخالدي

اذا رأيت جارك يحمل غرضاً، فاسرع بمساعدته، ولا تخطئ ظنك بأن تجد الجنة في تلك الدار المجاورة.

بوب ديلان ”The Ballad of Frankie Lee and Judas Priest” 

منذ اللحظة الأولى لإعلان وزير الخارجية الأميركي جون كيري في أيار 2013 عن إعداد خطة استثمارية عالمية تحت شعار "تنمية الاقتصاد الفلسطيني"،  لم تنقطع التعليقات المؤيدة والمستنكرة والمتسائلة من مختلف الجهات، وخاصة الفلسطينية، حول الدوافع الأميركية ومغزى الخطة ومضمونها. وعند إطلاق المبادرة بصياغتها الأولية بمبلغ استثماري مقترح بـ 4$ مليار، طُرحت وفُهمت على نطاق واسع بأنها تشكل تشجيعاً ملموساً للأطراف (أو ربما طعماً للطرف الفلسطيني) بموازاة الجهود لإحياء المفاوضات الإسرائيلية-الفلسطينية حول حل "الوضع الدائم". والكثير من الجدل دار (وما زال) حول هذا التفسير المبسط، وفيما بعد قام فريق دولي من "الخبراء" تابع لممثل الرباعية الدولية بصياغتها رزمة من المقترحات وإعادة تسمية الخطة بـ"المبادرة الاقتصادية من أجل فلسطين"، نزولاً عند الإصرار الرسمي الفلسطيني بضرورة التوضيح أنها ليست مبادرة فلسطينية بل أنها تعكس تدخل دولي لصالح فلسطين.

ثم أضافت الرباعية تقديرات لاستثمارات متعددة القطاعات لتبلغ قيمة المبادرة حوالى 10.5$ مليار خلال 3 سنوات (تنفق 60% منها في السنة الأولى)  مع حديث عن احتمال رفع الهدف الاستثماري إلى 19$ مليار إذا تبين أن القدرة الاستيعابية للاقتصاد الفلسطيني تتحمل مثل هذه المبالغ خلال فترة تنفيذ البرامج المقترحة. ومع أن تلك المقترحات لم تنشر رسمياً من قبل الرباعية أو الأطراف المعنية، فإن صحيفة اقتصادية محلية جديدة انفردت بنشر ما تؤكد أنها التفاصيل الدقيقة (المسربة) للمبادرة بشكلها الأولي والمبالغ الاستثمارية الإجمالية والبرامج القطاعية (جريدة الحدث، 10/12/2013).  وما تكشفها هذه التفاصيل عن أهداف المبادرة وحجمها واحتمالات تنفيذها توفر المزيد من الوقود للجدل الدائر والتفسيرات المتباينة لأهميتها ووظيفتها ومصيرها في هذه اللحظة التفاوضية المحفوفة بعدم اليقين وتقلبات إقليمية ومحلية في موازين القوى. 

ما من شك أن الرؤى الفلسطينية الغالبة ما زالت تعتبر أنه لا يمكن فهم مبادرة الرباعية الاقتصادية سوى من منظور ما يسمى ب"السلام الاقتصادي" القائم أساساً على توظيف المحفزات الاقتصادية وتقديم تسهيلات كبديل مؤقت عن السلام العادل والشامل. ويمكن تفصيل هذا المفهوم إلى نوعين، "سلام اقتصادي خبيث" و"سلام اقتصادي حميد"، يتجددان ويتشكلان حسب المرحلة. والنوع الخبيث ترويضي، أي تسليم الشعب الفلسطيني بشكل من الحياة المستقرة في مرحلة معينة مقابل إطلاق يد إسرائيل لتحقيق أهداف استعمارية أو رأسمالية. وهو تأجيلي، حيث يساعد على الابتعاد عن التعامل مع القضية السياسية من خلال إشغال الناس بالهم الاقتصادي والمعيشي. وهذا النوع من السلام الاقتصادي كان له عدة نماذج سابقة، مثل "الجسور المفتوحة" التي أطلقها موشى دايان بعد احتلال 1967 لإنهاء الكفاح المسلح في الأراضي الفلسطينية، ثم سياسة " تحسين جودة الحياة" التي أطلقها شولتز ورابين، عام 1986 وقوبلت بحجارة الانتفاضة الأولى، إلى أن جاءت أوسلو في 1993. وما بعد ذلك ما أطلقه في 2009 رئيس الوزراء الإسرائيلي نتنياهو الذي لم يخجل بتسمية الشيء باسمه، حيث أنه الذي أشهر مصطلح "السلام الاقتصادي" أصلاً، دون تحديد مدى خباثته!

أما السلام الاقتصادي "الحميد" فهو ثنائي الطرف ومتفق عليه من قبل الجانبين الإسرائيلي والفلسطيني، لفترة محددة ولهدف محدد جوهره بالأساس سياسي، وربما يعتبر بروتوكول باريس الاقتصادي لعام 1994 ارقى أشكاله. ودون أدنى شك إن الطرف الإسرائيلي "المستعمر" هو الأكثر استفادة أيضاً من هذا النوع، الذي يطيل من فترة احتلاله ويكرس استعماره، مثل ما حدث بعد 5 سنوات على توقيع اتفاقية أوسلو تكشفت نوايا إسرائيل غير الحميدة وأثبتت عجز السلام الاقتصادي الحميد نفسه.  كما كانت "تفاهمات ستينتز- فياض 2012" حول إدارة التدفقات التجارية والضريبية بين الطرفين نسخة "حميدة" إلى حد ما. وهذه النماذج التعاونية شبيهة بالطرح الدولي الجديد الذي يبدو للوهلة الأولى بأنه ليس سوى نسخة جديدة معدلة عن النسخ السابقة الحميدة، التي كانت محددة بفترات زمنية وتحمل معها أهدافاً سياسية مشتركة. 

والأهم من ذلك أن جميع نسخ السلام الاقتصادي باءت بالفشل؛ إما لأنها كانت تضمر في ثناياها نوايا إسرائيلية استعمارية، أو بسبب المعارضة الفلسطينية أو خلل ما في تصميمها. وكلها عملت على مبدأ إخضاع التنمية الفلسطينية للأولويات السياسية السائدة وإلى اعتبارات توثيق التعاون الاقتصادي الفلسطيني مع إسرائيل. وكانت دائما ترافق مثل هذه والمبادرات دراسات وأبحاث علمية مشتركة، التي غالباً ما استندت إلى مفاهيم وتنبؤات اقتصادية خاطئة، تمحورت حول الادعاء بأن هناك مساراً اندماجياً محتملاً من خلال التبعية للاقتصاد الإسرائيلي الأكثر تقدماً ومن خلال نموذج اقتصادي يعتمد السياسات الليبرالية و"اقتصاد السوق الحر"، كما ينص على ذلك القانون الفلسطيني الأساسي.

إن القائمين على إعداد مبادرة الرباعية، ومن يروج لفوائدها المحتملة، يتوقعون منها نتائج كبرى خلال 3 سنوات، حملت كيري نفسه على التساؤل إذا ما كانت "ضرب من الخيال":

  • نمو حقيقي في الناتج الإجمالي المحلي يبلغ 50% وارتفاع موازي في الناتج الإجمالي المحلي للفرد؛
  • تخفيض نسبة البطالة من 23% إلى 8% من خلال خلق 350000 وظيفة جديدة في القطاع الخاص؛
  •  زيادة 30% في معدل الدخل الأسري يصل إلى 10000$؛
  • زيادة في تدفق رأس المال الأجنبي المباشر من 600$ مليون سنوي إلى 5-6 مليار خلال 3 سنوات؛
  • إيرادات ضريبية إضافية مقدرة بـ 655$ مليون سنوياً؛
  • التحول من نمط المساعدات الدولية على شكل منح (والبالغة تقريباً 1$ مليار سنوياً) لسد عجز الموازنة العامة إلى خليط من الاستثمارات المباشرة الدولية والعربية والمحلية (6$ مليار) والقروض "المضمونة" دولياً للقطاع الخاص (3$ مليار) والقروض الرسمية الميسرة (1.5$ مليار) لتحسين أداء القطاع العام ومساعدتها على تنفيذ سياسة تكييف هيكلي وتقشف في التوظيف العام بنسبة 18% خلال فترة المبادرة؛

وتحقيقاً لاستراتيجيتها المتمثلة بثلاث شعارات كبرى، "تزويد القطاع الخاص بالبنية التحتية المدفوعة" و"تحرير الإمكانيات الذاتية الجوهرية للاقتصاد"  و"تسريع النهوض في القطاعات الرئيسية"،  تشمل مبادرة الرباعية حوالي 50 مشروعاً/برنامجاً موزعة على 8 قطاعات اقتصادية وبنية تحتية رئيسية: المياه (استثمارات بحوالي 1.3$ مليار)؛ الطاقة (2.5$ مليار)؛ السياحة (1$ مليار)؛ الاتصالات (400$ مليون)؛ الزراعة(550$ مليون)؛ الصناعات الخفيفة (300$ مليون)؛ المقاولات والبناء (3.7$ مليار)؛ مواد البناء (250$ مليون). 

ودون الخوض بالمزيد من التفاصيل، يمكن الإقرار بأن ما تتضمنها المبادرة من حجم استثماري موعود، وتوسع قطاعي، وتفصيل برنامجي وآليات تمويلية، تعتبر انحرافاً عن توجه التدخلات الاقتصادية والمساعدات الدولية السابقة. كما أن غالبية برامجها تخص تطوير القدرات الإنتاجية والإنمائية الفلسطينية (سياحة، زراعة، صناعة وبناء)، ربما كان يفترض البدء بالعناية بها منذ أوسلو وليس في هذه المرحلة المتأخرة، بينما برامج أخرى تمس جوانب اقتصادية سيادية لا بد من إنشائها كبنية تحتية للدولة الفلسطينية العتيدة (طاقة، اتصالات، معادن). وهذا يعتبر تقدماً إيجابياً مقارنة بطبيعة السياسات والاستثمارات والمساعدات الاقتصادية القائمة، التي لم تلبِّ احتياجات القطاعات الاقتصادية الحيوية بل أغفلتها وهمشتها على حساب ضرورات التجاوب مع الطوارئ والأزمات الإنسانية، ناهيك عن تمويل العجز العام من رواتب وتكاليف تشغيلية للسلطة الفلسطينية. ومع ذلك فإن المبادرة الجديدة لا تبتعد عن النهج الاقتصادي الليبرالي المتصاعد في فلسطين منذ 2005 (أو 1994) من حيث تضمنها لمشاريع تعجّل من انحسار دور الدولة الاقتصادي واستبداله بالخصخصة و"شراكات خاصة – عامة" حيث ذلك ممكن، ونشر ثقافة السوق الحر والمديونية وما يتصل بها من توجهات استهلاكية وقيم مادية ترسخت في فلسطين (كما في دول المنطقة والجنوب عامة) خلال العقدين الماضيين.

وإذا كانت المبادرة سترى النور وتتاح الفرصة لاختبار وعودها الوردية، تقر الرباعية نفسها بضرورة إحداث تغيير جوهري في تعامل الاحتلال مع ملف التنمية الفلسطينية بعيدة عن السياسة، وهنا طبعاً بيت القصيد. لذلك تتضمن الخطة قائمة ما تسمى بـ"ركائز الدعم" (enablers)، وهي إجراءات تسهيلية يجب توفيرها لإنجاح تنفيذ المبادرة وخاصة مشاريعها العملاقة. ومع أن بعض هذه الركائز تخص إصلاحات فلسطينية داخلية، فإن معظمها تتحكم بها إسرائيل، أما من خلال إملائها لشروط العلاقة الاقتصادية مع السلطة الفلسطينية عامة (في اطار أوسلو وباريس) أو بحكم إخضاع 60% من الضفة الغربية المحتلة (مناطق "ج" الخارجة عن ولاية السلطة الفلسطينية) وشواطئ/بحر غزه والقدس الشرقية للاحتلال المباشر. 

وإذا اعتبرنا أن هذه المبادرة من ناحية المضمون ليست في أسوأ الأحوال سوى سلام اقتصادي حميد على طراز 2014، يترافق مع حل سياسي أو ربما يحل محله، وفي أحسن الأحوال تعبر عن نوايا رأسمالية عالمية جدية ترى من الأراضي الفلسطينية ساحة للتوسع وسوق للاستثماراتها الباحثة دائما عن مجالات جديدة، فإنه في كلتا الحالتين لا بد من التعامل بحذر شديد مع المبادرة من قبل القيادة الفلسطينية السياسية والاقتصادية. ولا يمكن أن يتلخص موقف السلطة تجاهه دون شروط "بالاستمرار في خطة كيري حتى لو توقفت المفاوضات"، كما أكد وزير الاقتصاد الوطني (جريدة الحدث 26/11/2013). وقبل إثارة الضجيج حول منافعها المحتملة، يجب تناولها من مختلف جوانب المخاطر التي تحملها، من توجهات الأصولية السوقية في التعامل مع قضايا تنموية جذرية تخص الأمن الاقتصادي القومي وليست قابلة لحلول الخصخصة، مروراً بالقبول بالافتراض الساذج بإمكانية قيام إسرائيل بتقديم جميع تلك التسهيلات التي امتنعت عن منحها طوال 20 سنة وحتى عندما كان الوضع الداخلي الفلسطيني أقوى بكثير، وصولاً إلى التنبؤات الاقتصادية "الخيالية" فعلاً حول وقع مثل هذه الاستثمارات لو سُمح لها.

ورغم كل المخاطر المحتملة، وفي السياق السياسي الأوسع المتمثل بالسعي الدولي لإتمام اتفاق إسرائيلي-فلسطيني تاريخي في 2014، فلا بأس بأن يتم اختبار الاستعداد الإسرائيلي الآن فيما يتعلق ببعض القطاعات الاستراتيجية لفحص مدى الجدية في تقديم رزمة من التنازلات والتسهيلات في مجالات أو مناطق يفترض أنها ستنسحب منها قريباً (مثلاً الطاقة والزراعة والمياه). ومن زاوية أخرى غير مشككة بنوايا جون كيري، يمكن إعادة قراءة كل الموضوع في سياق الجهود الأميركية (الصديقة ظاهرياً) لوضع الحكومة الإسرائيلية على المحك، حيث إذا لم تكن قادرة أو مستعدة للتعامل مع سلام اقتصادي حميد وفتح الأبواب أمام رأس المال العالمي، فكيف ستتعامل إسرائيل مع خطة كيري السياسية التي سيزيل الستار عنها قريباً؟

 

  • ALSO BY THIS AUTHOR

    • Israel’s War: Making Palestine Unlivable for Palestinians

      Israel’s War: Making Palestine Unlivable for Palestinians

      For six weeks now, Israel has unleashed its full military power in a prolonged retaliation for the October 7 surprise attack by Hamas-led Palestinian armed brigades targeting Israeli towns and settlements surrounding the Gaza Strip, which killed some 1200 Israeli civilians and military personnel. Palestinians view this a natural outcome of years of economic and social deprivation in Gaza and denial of Palestinian rights everywhere, and as legitimate resistance against occupation. While generally not condoning the deliberate killing of non-combatants, many Palestinians look at October 7 in terms of proportionality with what has happened since. For Israel and its allies around the globe, this brazen and bloody assault entailed an intelligence and policy failure that has been termed Israel’s Pearl Harbour, its 9/11. Meanwhile, Israel and the US have cast Hamas as a Nazi-ISIS entity that must be eliminated for the benefit of Western civilization itself.

    • The Resurgent “Arab Economy” of Palestine

      The Resurgent “Arab Economy” of Palestine

      Hyperbole aside, events of the past weeks here in Palestine have if nothing else pointed to a major re-imagining of the prospects for Palestinian political unity and vision, effective resistance to Israel and a fresh narrative of the meaning of liberation to a younger generation of Palestinians, one that resonates among their compatriots and their supporters worldwide. Once the dust from this latest battle has settled, the Palestinian political system will need to draw the latest lessons to gear up for future phases of coordinated confrontation. In particular Palestinian politics going forward can only benefit from the potential for mass mobilization and coherent, coordinated action that has been shown to be within the realm of the possible. The fact that the latest struggle has brought 1948 in all its political, social and geographic dimensions back into the center of attention, suggests a moment where Palestine as a whole is at stake, not only Gaza or Jerusalem or Ramallah but also Jaffa and Haifa and the shatat.

    • كيف يمكن للقدس الصمود؟

      كيف يمكن للقدس الصمود؟
      منذ سنوات، دأب أحد الأقارب من أبناء القدس الأصيلين يحذّرني من أنّ المخططات الإسرائيلية للاستيلاء على الحرم الشريف جاهزة بل قيد التنفيذ، وسيتم تحويل ساحاته إلى "حديقة وطنية" ترتبط بالمس

الرأسمالية الفلسطينية المتمادية

لمحة عامة

تكافح غالبية الفلسطينيين الرازحين تحت الاحتلال الإسرائيلي من أجل البقاء على قيد الحياة، وفي الوقت نفسه تشهد فئةٌ متنفذةٌ من الرأسماليين الفلسطينيين ازدهارًا وتناميًا في نفوذها السياسي والاقتصادي والاجتماعي. وغالبًا ما يكون ثمن ذلك الازدهار مشاركتهم في مشاريع التطبيع الاقتصادي. أي أن هؤلاء الرأسماليين الفلسطينيين يتعاملون مع الإسرائيليين كما لو كانوا شريكًا تجاريًا "طبيعيًا" وليس قوةً محتلة ما انفكت تنتهك حقوق الشعب الفلسطيني بلا رحمة منذ ما يزيد على 65 عامًا.

يُسلِّط عضو الشبكة طارق دعنا، في هذه الورقة السياساتية، الضوءَ على أساليب هؤلاء الرأسماليين الفلسطينيين في ممارسة نفوذهم السياسي وفرض سيطرتهم الاجتماعية، ويسُوق أمثلةً لمشاريع التطبيع الاقتصادي التي يشاركون فيها.

لمحة موجزة عن رأس المال الفلسطيني

ظل رجال الأعمال الفلسطينيون حاضرين في المجال السياسي منذ ما قبل إنشاء منظمة التحرير الفلسطينية. وبعد تأسيسها، لعب الرأسماليون الفلسطينيون أدوارًا متنوعة في حركة التحرر الوطني. ونظرت بعض فصائل منظمة التحرير الفلسطينية، ولا سيما حركة فتح، إلى الطبقة الرأسمالية الفلسطينية باعتبارها "برجوازيةً وطنية،" وبالتالي كجزءٍ لا غنى عنه في النضال ضد الاستعمار، وتعاملت معها وفقًا لذلك.

وفي ذلك الوقت، انطوت مشاركة الرأسماليين الفلسطينيين مع منظمة التحرير الفلسطينية على تقديم التمويل، وشغل المناصب القيادية في المنظمة، والوساطة السياسية. ومن أمثلتها وساطة رجال أعمال فلسطينيين بين قيادة منظمة التحرير الفلسطينية والنظام الأردني في أحداث أيلول الأسود، وبين قيادة منظمة التحرير الفلسطينية والإدارة الأمريكية إبان ثمانينيات القرن الماضي. وكان للعديد منهم مساهمات خيرية و دعموا العديد من  المشاريع التعليمية والاجتماعية والاقتصادية. ومن الأمثلة الرئيسية في هذا الصدد إنشاءُ مؤسسة التعاون سنة 1983 التي شكَّلت دفعةً كان المشروع الوطني الفلسطيني بأمس الحاجة لها في القطاعين التعليمي والاجتماعي و الاقتصادي في أعقاب طرد جُل الفدائيين  الفلسطينيين من قاعدتهم في لبنان إبان الاجتياح الإسرائيلي عام 1982 بقيادة رئيس الوزراء السابق آرييل شارون.

ومنذ أوسلو، ما فتئ نفوذ الرأسماليين الفلسطينيين يتنامى على نحو غير مسبوق في الأراضي المحتلة، ولا سيما في السنوات الأخيرة. ويمكن تصنيف الرأسماليين الفلسطينيين في ثلاث فئات رئيسية:

  • الرأسماليون "العائدون" المنتمون إلى الطبقة البرجوازية الفلسطينية التي برزت في البلدان العربية، وبخاصة دول الخليج، وفي أمريكا الشمالية وأوروبا. وقد ارتبط العديد من رجال الأعمال هؤلاء بعلاقات وطيدة مع السلطة الفلسطينية الوليدة.
  •  الرأسماليون المحليون، وينقسمون إلى فئتين فرعيتين: كبار مُلاّك الأراضي المتمتعون بنفوذ سياسي واجتماعي كبير في الهياكل الاجتماعية التقليدية؛ والوسطاء المحليون الذين جمعوا ثروتهم بالعمل كمتعاقدين من الباطن لحساب شركات إسرائيلية في أعقاب احتلال أراضي 1967.
  •  حديثو الثراء، الذين اكتسبوا ثروتهم في الآونة الأخيرة مستفيدين بوجه خاص من عملية أوسلو بطرقٍ مختلفة كما سنأتي على ذكره لاحقًا.

التأثير في عملية صنع السياسات

عانى رجال الأعمال الفلسطينيون، كغيرهم من الفلسطينيين، من انعدام الجنسية (statelessness)، وبحثوا عن الأمن الذي من شأن الدولة أن توفره لكي تحظى شركاتهم وأرباحهم بحماية وحصانة أفضل في مواجهة عدم الاستقرار والتهديدات الإقليمية. وهكذا، أيَّد الكثيرون منهم اتفاقات أوسلو كخطوةٍ رئيسية نحو إقامة الدولة الفلسطينية، حتى إن بعضهم توهَّم بأن "عوائد السلام" المنبثقة من اتفاقات أوسلو سوف تُحوِّل الضفة الغربية وقطاع غزة إلى سنغافورة الشرق الأوسط.

تبرز العلامات المبكرة للنفوذ الرأسمالي في السلطة الفلسطينية الوليدة في المادة 21 من القانون الأساسي الفلسطيني التي تنص على أن "يقوم النظام الاقتصادي في فلسطين على أساس مبادئ الاقتصاد الحر" (التوكيد من الكاتب). غير أن دستور الولايات المتحدة، على سبيل المفارقة، يتسم بمرونة كافية تسمح بتبني استجابات مختلفة لظروف اقتصادية محددة رغم أن الولايات المتحدة هي القوة الدافعة عالميًا للرأسمالية القائمة على السوق الحرة. لقد ساهم تبني النهج النيوليبرالي داخل السلطة الفلسطينية في استحداث إطار مؤسسي يُمكِّن جماعات المصالح الاقتصادية من التلاعب في السياسات لخدمة مآربهم الخاصة.

لقد عزَّزت النيوليبرالية الممزوجة بالاستبداد السياسي والفساد ما يمكن وصفه بأنه رأسمالية قائمة على المحسوبية والشِللية (crony capitalism) في إطار السلطة الفلسطينية. وتجلت المحسوبية ضمن السلطة الفلسطينية منذ تأسيسها في نشوء علاقات خاصة بين رجال الأعمال ذوي النفوذ والنخبة السياسية والأمنية في السلطة الفلسطينية. وكان لهذا الوضع بطبيعة الحال آثارٌ سلبية على الاقتصاد، إذ أعاقت السلطة الفلسطينية بمحاباتها جماعات سياسية واقتصادية معينة تنافسيةَ السوق واستبعدت غالبية الناس من الحصول على فرص اقتصادية مجدية.1 وتنامت قدرة الرأسماليين على التأثير في سياسات الحكومة وازداد السياسيون ثراءً.

وإبان عقد التسعينيات، أدت العلاقة الخاصة بين بعض الرأسماليين الفلسطينيين والدوائر السياسية الحاكمة في السلطة الفلسطينية إلى تركُّز السلطة السياسية والاقتصادية في يد أفراد قليلين تمكنوا بسرعة من تحويل المشروع الوطني إلى لعبة سياسية قائمة على المصالح. وكانت الحال كذلك ولا سيما فيما يتعلق بتواطؤ النخبة السياسية والأمنية في السلطة الفلسطينية مع تكتلات رجال الأعمال في الشتات لإدارة احتكارات القطاعين العام والخاص واسعة النطاق. فقد شملت تلك الاحتكارات المحمية من السلطة الفلسطينية ما يزيد على 25 سلعة رئيسية مستوردة بما فيها الدقيق والسكر والزيت واللحوم المجمدة والسجائر والحيوانات الحية والإسمنت والبحص والفولاذ والخشب والتبغ والبترول.

لم تكن هذه الاحتكارات مؤشرًا مبكرًا على فساد السلطة الفلسطينية وحسب، بل كانت أيضًا التجسد الأوضح للتحالف السياسي-الاقتصادي الناشئ الذي أوجدَ ضمن السلطة الفلسطينية آليةً سياسيةً فعالة لتحقيق المصالح الاقتصادية الخاصة. وعلاوة على ذلك، مُنِحت الاحتكارات على نحو انتقائي للفاعلين السياسيين والاقتصاديين الفلسطينيين المقرَّبين من الشركات الإسرائيلية. وفي المحصلة، نجم عن الاحتكارات أثرٌ مدمر على الاقتصاد الفلسطيني والشركات الفلسطينية الصغيرة، وفائدةٌ للاقتصاد الإسرائيلي. وأصبح عددٌ من المسؤولين السياسيين والعسكريين الإسرائيليين السابقين، بعد تقاعدهم، شركاءَ تجاريين لبعض الرأسماليين الفلسطينيين والنخب السياسية في السلطة الفلسطينية. وفي المقابل، منحت إسرائيل رجال الأعمال والسياسيين الفلسطينيين امتيازات خاصة كالحصول على التصاريح، وقدرٍ أكبر من حرية التنقل والتجارة، وحرية المرور المخصصة لكبار الشخصيات.

ومع تعيين رئيس الوزراء السابق سلام فياض وتنفيذ البرامج الحكومية التي استحدثها منذ 2008، زاد نفوذ الرأسماليين في المؤسسة السياسية. وفي معظم الأحيان، تبوأ رجال الأعمال والتكنوقراطيون المؤيدون للرأسمالية مناصبَ وزاريةً رئيسية في حكومات فياض.

شكَّلت عملية "إصلاح" القطاع المصرفي التي جرت في عهد فياض جانبًا مهمًا من جوانب زيادة النفوذ السياسي الرأسمالي. فتلك الإصلاحات مكَّنت الحكومةَ من توقيع عقودٍ طويلة الأجل بلغت نحو 4.2 مليار دولار في العام 2013 وفقًا لتقديرات مؤخرة، أي ما يصل إلى 50% من الناتج المحلي الإجمالي، بفائدة سنوية تبلغ 200 مليون دولار. وبالنسبة لاقتصادٍ يعتمد إلى حدٍ كبير على المساعدات الدولية، تُشكِّل هذه المديونية العامة المرتفعة قلقًا حقيقيًا. ولا يتضح إلى الآن كيف أُنفقت تلك الأموال وكيف ستسدد السلطة الفلسطينية ديونها.

وبفعل ارتفاع مستوى الدين العام، يستطيع الرأسماليون أن يضغطوا على السلطة الفلسطينية لكي تغير سياساتها بما يتفق ومصالح الشركات الخاصة الكبرى، حيث يهددون بسحب بعض الاستثمارات أو الامتناع عن الدخول في استثمارات أخرى، كما يبين علاء الترتير في دراسة صدرت مؤخرًا. وغني عن القول إن الشعب هو من يدفع الثمن، كما حصل حين رفعت السلطة الفلسطينية ضريبةَ الدخل وخفَّضت الإنفاق في مطلع 2012

ازداد دور هؤلاء الرأسماليين الفلسطينيين بروزًا حتى على الصعيد السياسي الدولي. فهم يُلقون بثقلهم خلف جهود وزير الخارجية الأمريكي جون كيري لوضع تسوية سلمية من خلال خطتهم الفلسطينية-الإسرائيلية المشتركة المسماة "كسر الجمود" بالرغم من الأثر الوخيم الذي سيلحق بالحقوق الفلسطينية جراء ذلك. وعلاوة على ذلك، تفيد التقارير بأن الخطة أُعدَّت دون مشاركة المجتمع المدني الفلسطيني ولا حتى السلطة الفلسطينية نفسها.

يشير هذا إلى أن الرأسماليين الفلسطينيين المحليين الشِلليين أصبحوا المستقبِل الأول لمبادرات "السلام" الدولية. ومن الصعب أن يصدق المرء بأن خطة السلام التي يديرها هؤلاء سوف تساهم في الدفع نحو تقرير المصير وتحقيق الحرية والعدالة للقضية الفلسطينية. بل من المرجح أن تشكل فرصةً ربحية أخرى لهؤلاء المنتفعين من استمرار الوضع القائم.

 

السيطرة الاجتماعية من خلال الديون ووسائل أخرى

كما في بقاع أخرى من العالم، يقوم النظام النيوليبرالي على آليات مختلفة للسيطرة الاجتماعية من أجل اخضاع الأفراد و المجتمع ككل بشكل يضمن استمرارية النظام القائم مهما كان جائرا وتعسفيا. وفي الحالة الفلسطينية تهدف ادوات السيطرة الاجتماعية بشكل أساسي الى تطبيع الاحتلال، واختراق الجماعات التي تسعى لمقاومته باستخدام وسائل مختلفة من اجل احتوائها و اخضاعها.2 ولممارسات السيطرة الاجتماعية في فلسطين أثرٌ مدمر بوجه خاص لأنها ترتبط بمجموعة الضوابط الاستعمارية التي يصممها الاحتلال.

لقد سعى الرأسماليون الشِلليون لممارسة السيطرة الاجتماعية بواسطة تسخير المجتمع المدني لخدمة أهدافهم، والعمل جنبًا إلى جنب مع الجهات المانحة الدولية الكبرى. ومن الطرق التي يتبعونها في ذلك إنشاءُ منظمات غير حكومية كبيرة تنزع إلى اختراق النسيج الاجتماعي بواسطة تشجيع قيم معينة تصممها المؤسسات المالية والوكالات الإنمائية الدولية لاستدامة النظام النيوليبرالي. ومن المتوقع أن تنتقل قيم تلك المنظمات غير الحكومية لتصل إلى منظمات المجتمع المدني الأصيلة عبر مشاريع بناء القدرات ومشاريع أخرى.

وثمة جانب آخر للسيطرة الاجتماعية يتمثل في تسهيل الإقراض الخاص، والذي يشجّع ثقافة الاستهلاك ويوقع الكثيرين في فخ الديون. فوفقًا لسلطة النقد الفلسطينية، قفزت القروض الفردية إلى حوالي مليار دولار أمريكي في 2013 مقارنةً بنحو 494 مليون في 2009. ويقدَّر أن 75% من موظفي القطاع العام (94000 من أصل 153000) مدِينون. تُستخدم الديون الشخصية في المقام الأول في تمويل الاستهلاك (بما في ذلك الرهن العقاري، وشراء السيارات، ودفع تكاليف الزواج، وشراء الأجهزة الكهربائية) وقلما تُستَثمر في أنشطة إنتاجية. إن لهذه الحالة من المديونية الشخصية تداعيات اجتماعية كبيرة لأنها تشجع مذهب الفردية وتوجِّه الاهتمام بالشواغل الشخصية الخاصة، مما يدفع الناس على نحو منهجي للتخلي عن القضايا الوطنية الحاسمة. وهي تعزز اللامبالاة السياسية وتُضعِف التفكير الناقد والجهود المناهضة لطبيعة النظام القمعية.

ومن الأساليب الأخرى للسيطرة الاجتماعية استغلال العمال في المصانع المملوكة لبعض الرأسماليين المحليين حيث يتقاضى العمال أجرًا أقل بكثير من الحد الأدنى للأجور الذي حددته الحكومة مؤخرًا للقطاع الخاص والبالغ 1450 شيكل (377 دولار أمريكي). "رغم أن العمال احتجوا على الحد الأدنى للأجور الذي أعلنته السلطة الفلسطينية، لأنه لا يكفل الحد الأدنى لمستوى المعيشة، لا يزال الكثيرون منا يعملون في ظروف مهينة، حيث تقل رواتبنا حتى عن 1000 شيكل. ومع ذلك، علينا أن نقبَل، وإلا فإننا سنُرمى في الشارع" (مقابلة مع الكاتب). ويتفاقم ما تتعرض له العمالة الفلسطينية من استغلال وسيطرة جراء غياب الاتحادات العمالية الفعالة، حيث عملت السلطة الفلسطينية والرأسماليون على حدٍ سواء على اختراق و إضعاف تلك الاتحادات إلى حدٍ كبير.

هناك مخاوف من أن نظام استغلال العمال والسيطرة عليهم سوف يتسع ويتمأسس من خلال المناطق الصناعية المصممة لدمج رأس المال الفلسطيني والإسرائيلي والإقليمي من أجل استغلال وفرة العمالة الفلسطينية الرخيصة. ووفقا لآدم هنية، لن تطبق المناطق الصناعية قوانين العمل الفلسطينية أو الإسرائيلية، أو مستويات الأجور وشروط العمل الأخرى المتبعة لدى الجانبين، وسوف يكون الحق في تكوين الاتحادات العمالية محظورًا.

تطبيع الاحتلال على الطريقة الاقتصادية

بات التطبيع الاقتصادي مُمأسسًا في مجموعة واسعة من الأنشطة المشتركة مثل المناطق الصناعية المشتركة ومنتديات الأعمال الإسرائيلية الفلسطينية المشتركة، والاستثمارات الفلسطينية في إسرائيل ومستوطناتها، والإدارة المشتركة للموارد المائية. ويُمثِّل هذا أعلى مستويات النشاط التطبيعي في تاريخ النضال الفلسطيني من أجل التحرر الوطني (انظر الصفحات الأكاديمية والثقافية الخاصة بحركة مقاطعة إسرائيل وسحب الاستثمارات منها وفرض العقوبات عليها للاطلاع على تعريف التطبيع).3

ندَّدت بعض الجماعات العاملة في مجال حقوق الإنسان الفلسطيني وتقرير المصير علنًا ببعض الرأسماليين الفلسطينيين الشِلليين. وردّ الرأسماليون مدَّعين ببساطة بأنهم يسعون لخدمة الاقتصاد الفلسطيني وصمود الشعب، في حين أن المشاريع المشتركة بين الفلسطينيين والإسرائيليين تمثل في الحقيقة أقبح وجه للتطبيع بسبب حجمها واتساع نطاقها، وبخاصةٍ لأنها تُعين القوة المحتلة على التربح وعلى التغلغل أكثر فأكثر بهياكلها في الأرض المحتلة. وفيما يلي بضعة أمثلة لمشاريع تطبيعية كبرى.4

مدينة روابي وهي مدينة منظمة تمثل أحد أكبر الاستثمارات الخاصة في الضفة الغربية وأحد أكثر المشاريع الكبرى إثارةً للجدل، إذ تضرب مدينة روابي، سواء بقبول وزراعة نحو 3000 شجرة تبرع بها الصندوق القومي اليهودي عام 2009 (اقتُلعت لاحقًا بسبب الانتقادات) أو بالتعاقد مع ما يزيد على 10 شركات إسرائيلية لتوريد المستلزمات، مثالًا للترويج لتربح الشركات الخاصة والتطبيع الاقتصادي على أنه "مشروع وطني".

المناطق الصناعية

تطبق المناطق الصناعية في الأراضي المحتلة المنطق نفسه المتبع في
المناطق الصناعية المؤهلة في الأردن ومصر. وهي تجسد طموح شمعون بيريز في "شرق أوسط جديد" يُنظر فيه إلى إسرائيل باعتبارها المركز الاقتصادي المهيمن في المنطقة. وتُمثل المناطق الصناعية إشكاليةً كبيرة أيضًا لأنها تدمج رأس المال الفلسطيني والإسرائيلي والإقليمي في آليةٍ عديمة الشفقة لاستغلال العمالة الرخيصة الفلسطينية والأجنبية الوافدة على السواء. ورغم أن تلك المناطق تعود بالنفع على نخبة قليلة من رجال الأعمال المحليين، فإنها تساهم في تقدم منظومة السيطرة الإسرائيلية وتكرِّس الاحتلال.

الاستثمارات الفلسطينية في إسرائيل والمستوطنات

تفيد
إحدى الدراسات بأن رأس المال الفلسطيني المستَثمر في إسرائيل ومستوطناتها غير القانونية يفوق بكثير رأس المال الفلسطيني المستَثمر في الضفة الغربية - ما بين 2.5 و5.8 مليار دولار مقابل 1.5 مليار دولار فقط في الضفة الغربية. وقد اتهمت وزارة الاقتصاد الفلسطينية الدراسة بأنها تفتقر إلى الدقة والموضوعية، في حين وصفها بعض الاقتصاديين بأنها تعاني من مشكلات منهجية بالغة. ومع ذلك يبقى فحواها جديرًا بالذكر. وقد قال مصدرٌ في وزارة الاقتصاد للكاتب إن "الكثير من رجال الأعمال الفلسطينيين يستثمرون في المستوطنات الصناعية مثل بركان ومعاليه أدوميم وغيرها من المجمعات الصناعية الزراعية في غور الأردن."

وخلصت دراسةٌ استقصائيةٌ أخرى إلى أن العديد من الشركات الفلسطينية تشارك في تبييض منتجات غور الأردن، إذ غالبًا ما تحتال بوضع علامة "منتج فلسطيني" على منتجات المستوطنين الزراعية، ومن ثم تصدرها إلى الأسواق الدولية وبالتالي تتفادى حملات المقاطعة في بعض البلدان الأوروبية.

التعاقد مع شركات الأمن الإسرائيلية

كشف
تقريرٌ صدر مؤخرًا أن بعض الشركات الفلسطينية (فندق موفنبيك رام الله، وبنك الأردن، والبنك الأهلي الأردني، وبنك القاهرة عمان، وبال سيف (Pal-Safe) ترد أسماؤها في قائمة العملاء المستفيدين من خدمات شركة نيتاكس (Netacs)، وهي شركة أمنية إسرائيلية يملكها اللواء في جيش الاحتياط داني روتشيلد الذي قاد قوات الاحتلال الإسرائيلي في الضفة الغربية وجنوب لبنان وعمِلَ في المخابرات العسكرية.

الشراكة بين الفلسطينيين والإسرائيليين في المشاريع التكنولوجية

يعكف العديد من رجال الأعمال الفلسطينيين على التعاون والتشارك مع
شركات إسرائيلية في مجال التكنولوجيا المتطورة. ومن أمثلة ذلك مشروع صدارة الذي يتخذ من رام الله مقرًا له. أسَّس هذا المشروع سعيد ناشف ويادين كوفمان ويديره فريقٌ من الخبراء الإسرائيليين والفلسطينيين في مجال الابتكار التكنولوجي وخدمات الإنترنت. وقد نشرت مجلة فوربس تقريرًا مطولًا يُسلِّط الضوء على دور شركة سيسكو سيستمز الإسرائيلية في الجمع بين خبراء التكنولوجيا المتطورة الإسرائيليين ورجال الأعمال الفلسطينيين للمساعدة في النهوض بالاقتصاد الفلسطيني على غرار النموذج الإسرائيلي الناجح المتمثل في "أمة الشركات الصاعدة." ويكشف التقرير أيضًا بأن العديد من الشباب الفلسطيني في مجال التكنولوجيا المتطورة يتلقون دعوات للالتقاء بنظرائهم الإسرائيليين والعمل معهم في الكواليس وهي "مجرد واحدة من عشرات الحوارات المركزةَّ على الأعمال والأخذة في الانتشار بهدوء - وفي حالات كثيرة بالسر - في جميع أنحاء الأرض المقدسة."

ما الذي يجب عمله؟

إن النفوذ السياسي والاجتماعي الذي يمارسه الرأسماليون الفلسطينيون الشِلليون واستمرارهم في التطبيع الاقتصادي مع الاحتلال الإسرائيلي ينبغي أن يثير قلق الحريصين على مستقبل القضية الفلسطينية. فبسعيهم الحثيث وراء الربح دون اعتبار الحقوق الأساسية والتطلعات الوطنية الفلسطينية، تمادى هؤلاء الرأسماليون كثيرًا. إن أساليبهم في فرض السيطرة الاجتماعية والسياسية وتواطأهم المفضوح في مشاريع التطبيع يمثِّل عقبةً بنيوية في سبيل النضال ضد الاستعمار ويقوِّض المسعى الفلسطيني لإقامة العدالة. وفي هذا الصدد، ثمة خطوات عدة يجب اتخاذها، ومنها:

  • يجب أن يقاوم رجال الأعمال والمستثمرون المحليون المحاولات الإسرائيلية الساعية لإشراك رأس المال الفلسطيني في مشاريع التطبيع. فما من تشاركٍ بين رأس المال الفلسطيني والشركات الإسرائيلية يمكنه أبدًا أن يخدم التنمية الوطنية الفلسطينية وصمود الفلسطينيين.
  •  يجب على السلطة الفلسطينية، لكي لا يُنظَر إليها على أنها متواطئة، أن تصمِّم وتنفِّذ لوائح تنفيذية توجه طُرق استثمار رأس المال الفلسطيني، ولا بد لها أن تراقب هذه العملية عن كثب وبدقة لكي تحرصَ على أنها تخدم الأهداف الوطنية الفلسطينية. وينبغي وضع آليات فعالة لفرض المساءلة العامة بحيث تشمل القطاعات الاجتماعية المتنوعة والجهات الفاعلة الأصيلة في المجتمع المدني.
  • تضطلع منظمات المجتمع المدني والمؤسسات الأكاديمية بدورٍ مهم من خلال الدراسات التي تجريها ولفت الأنظار إلى هذه المسألة. ومع ذلك، لا بد من فعل المزيد لمحاسبة الرأسماليين الفلسطينيين الذين ضلّوا السبيل، كما تفعل حركة المقاطعة بين حين وآخر. وينبغي إطلاق حملات مستمرة لإضعاف موقفهم ونبذ تبريراته.
  • يجب أن تأخذ عمليةُ تنمية الاستثمارات والأعمال حقوقَ الإنسان الفلسطيني وكرامته في عين الاعتبار، وأن تُخفِّضَ تدريجيًا مستويات الاعتماد على المساعدات الدولية وعلى الاقتصاد الإسرائيلي، لتهيئة الظروف الأساسية لأشكال النضال والصمود المختلفة. وعلى وجه التحديد، ينبغي تطوير نموذج للتنمية على أساس مفهوم الاقتصاد المقاوم القائم على الاعتماد على الذات والاكتفاء الذاتي، وإعادة توزيع الثروة الوطنية توزيعًا عادلًا، ووجود بيروقراطية تخدم أجندة سياسية واقتصادية واجتماعية وإنمائية ديمقراطية تتمحور حول العنصر البشري.

يقتضي التغيير المطلوب إعادة هيكلةٍ كبرى للإطار السياسي العام. وأكثر من أي شيء آخر، يحتاج الفلسطينيون إلى قيادةٍ مكرسةٍ لمقاومة الاحتلال والسعي لإحراز حقوق الفلسطينيين في تقرير المصير والتحرر والعدالة والمساواة.

[نشر للمرة الأولى على "الشبكة" وتعيد "جدلية" نشره ضمن اتفاقية شراكة وتعاون مع المجلة. للنسخة الإنجليزية اضغط/ي هنا.]

 

الهوامش
1
See for example: Mushtaq Husain Khan, George Giacaman and Inge Amundsen (eds.) State Formation in Palestine: Viability and Governance during a Social Transformation, (2004, Routledge Political Economy of the Middle East and North Africa).

2
للاستزادة بشأن آليات السيطرة الاجتماعية في النظام الرأسمالي والنيوليبرالي انظر على سبيل المثال: David Tetzlaff, 
Divide and conquer: popular culture and social control in late capitalism, Media Culture Society, 1991, vol. 13 no. 1 9-33; Stephen Gill, Globalisation, Market Civilisation, and Disciplinary Neoliberalism, Millennium - Journal of International Studies, December 1995 vol. 24 no. 399-423.

 3
من الفقرات الرئيسية ما يلي: "التطبيع هو المشاركة في أيّ مشروع أو مبادرة أو نشاط، محلّي أو دولي مصمّم خصّيصاً للجمع (سواء بشكل مباشر أو غير مباشر) بين فلسطينيين (و/أو عرب) وإسرائيليين (أفراداً كانوا أو مؤسسات) ولا يهدف صراحة إلى مقاومة أو فضح الاحتلال وكل أشكال التمييز والاضطهاد الممارس على الشعب الفلسطيني."

4
للاستزادة بشأن التطبيع الاقتصادي انظر/ي على سبيل المثال: خليل نخلة، فلسطين: وطن للبيع، مؤسسة روزا لوكسمبورغ، 2011. متوفر الكترونيا على الرابط التالي: 
http://bit.ly/19p1jjU